المادة    
يقول رحمه الله: [وقد جاءت الأقلام في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة].
أي: جاءت بصيغة الجمع: (أقلام) كما في الحديث: {رفعت الأقلام}، وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: {بل فيما جفت به الأقلام}، وقد سبق أن ذكرنا الأحاديث التي تدل على أن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، وقلنا: إن القلم المذكور في هذا الحديث هو القلم الأول، الذي خلقه الله، فكتب به في الذكر كل شيء، إذاً هناك قلم وهناك أقلام، فكيف نفهم ذلك؟!
يقول المصنف: [والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة، وهذا التقسيم غير التقسيم المقدم ذكره]، يقصد بالتقسيم المتقدم ذكره: التقسيم الذي فيه أن القلم الأول هو الذي أقسم الله به، والقلم الثاني قلم الوحي، فذلك تقسيم وهذا تقسيم آخر، وهذا باعتبار وذاك باعتبار آخر، لكن لو تأملنا هذا التقسيم الذي ذكره رحمه الله والذي قال فيه: إن السنة دلت على أن الأقلام أربعة؛ لوجدنا أنه يذكرنا بالمرتبة الثانية من مراتب القدر التي هي الكتابة.
  1. درجات الكتابة

    درجات الكتابة هي:
    1- الكتابة الكونية: وهي التي توافق القلم الأول هنا، فالكتابة الكونية كانت عندما كتب الله سبحانه وتعالى كل شيء.
    2- الكتابة النوعية: وهي الكتابة التي كتب الله بها ما يكون للنوع الإنساني، أي: آدم وذريته، أي: أن الله كتب ما سيكون في الكون كله، لكن بالنسبة لآدم وذريته، فإن لهم كتابة خاصة، ذات مقادير خاصة.
    3- الكتابة الفردية العمرية: ونعني بـ(الفردية) أنها: بالنسبة لكل فرد من بني الإنسان، والعمريه أي: في عمره كله، وهذه الكتابة العمرية تكون بعد الاثنتين والأربعين ليلة، إذا أرسل الله عز وجل الملك لينفخ في الجنين الروح ويكتب ما سيكون في عمر هذا العبد، كما في الحديث: { ويؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد}.
    4- الكتابة الحولية: وهي ما يكتبه الله تعالى في ليلة القدر، فيكتب ما يكون إلى ليلة القدر القادمة، فيكون كل ما يقع في هذا العام قد كتبه الله سبحانه وتعالى في تلك الليلة، قال تعالى: ((فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ))[الدخان:4].
    5- الكتابة اليومية: وهي ما دّل عليه قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29]، وهو سبحانه وتعالى يقضي ويدبر، ويمحو ويثبت ما يشاء سبحانه وتعالى، ولا معقب لحكمه، ولا راد لأمره ولا لقضائه.
    هذه خمس كتابات، وقد ذكر المصنف أربعة أنواع من الأقلام، وهذا بسبب تداخل بعض الكتابات، فإن القلم الأول هو المتقدم ذكره مع اللوح، والقلم الثاني حين خلق آدم، وهو قلم عامّ أيضاً من جهة النوع، فيشمل النوع الإنساني بكل أعماله، وقد ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم عقب خلق أبيهم.
    وقد ذكر الشارح فيما سبق حديثاً ضمن الأحاديث التي فيها أن الله أخذ العهد والميثاق على بني آدم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وقررنا -أثناء شرحنا لذلك الموضع- أن الحديث لا ميثاق فيه، وإنما فيه القدر، وموضعه هنا، وهذا الحديث من رواية الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لما خلق الله آدم مسح على ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب! من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود، قال: أي رب! كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: أي رب! زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم، جاء ملك الموت، قال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته}، ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
    ولما تحدثنا عن الميثاق، ذكرنا أن موضوع أخذ العهد والميثاق تأتي أهميته من كونه يبحث في ثلاثة أمور من أمور العقيدة:
    الأمر الأول: أن له علاقة بموضوع الفطرة، ولهذا تحدثنا فيه عن حكم أطفال المسلمين وحكم أطفال المشركين.
    الأمر الثاني: علاقته بخلق الأرواح، وهل هي مخلوقة أو غير مخلوقة؟ ومتى خلقت؟ وهذا أيضاً تحدثنا عنه فيما مضى.
    الأمر الثالث: موضوع الفطرة وعلاقته بالقدر، ولاسيما مرتبة الكتابة، وقلنا: إن المصنف رحمه الله ذكر هذا الحديث هناك وليس فيه أخذ العهد والميثاق، وإنما فيه القدر.
    فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لما خلق الله آدم، مسح على ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة}.
    فكل من سيخلق الله سبحانه وتعالى إلى قيام الساعة من بني آدم قد سقط وخرج من ظهر آدم، وألقى الله سبحانه وتعالى وبيصاً من نور على كل أحدٍ منهم، وجعله بين عينيه، ثم عرضهم على آدم فقال: {من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك}، فأخذ ينظر إليهم ويرى وبيص النور بين أعينهم، فأعجبه وبيص بين عيني رجل منهم، وهو نبي الله داود عليه السلام، فلما أعجبه قال: {يا رب من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك}. وقوله: (من آخر الأمم) يدل على أن هناك بوناً عظيماً بين خلق آدم وبين داود عليه السلام الذي جاء بعد موسى؛ فقد قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[البقرة:246] ... إلى آخر القصة، فالملك الذي بعثه الله هو طالوت، وقد قاتل طالوت جالوت، والذي قتل جالوت هو داود، فيكون داود بعد موسى وقبل عيسى عليهم السلام، وقد مرّ إلى الآن تقريباً ألفا سنة على ولادة عيسى عليه السلام، فبين موسى وداود تقريباً ستمائة سنة، وبين داود وعيسى تسعمائة سنة، والله أعلم، ومع ذلك يقول: (في آخر الأمم من ذريتك).
    الشاهد: أن الله حين قال لآدم عليه السلام: {هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود}، رقّ له آدم عليه السلام لكونه في آخر الأمم، ولأجل النور بين عينيه، فقال: كم عمره؟ والله سبحانه وتعالى ربما أطلع آدم على أن الخلق لن يزال ينقص إلى قيام الساعة، وكما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فالخلق ما يزال ينقص في الأجسام والأعمار.
    فلما علم أن عمره ستون سنة، تحركت في نفسه الفطرة الإنسانية، وهي حب الحياة والتشبث بها، فتقالَّ عمر داود، ونحن اليوم إذا عاش الإنسان ستين سنة قالوا: إنه كبير السن، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أعمار أمته ما بين الستين إلى السبعين.
    فلما تقالها آدم عليه السلام، {قال: يا رب! زده من عمري أربعين سنة} ليصبح مائة، فكتب الله سبحانه وتعالى ذلك، وأخذ من عمر آدم وزاد في عمر داود، فلما جاء أجل آدم -بعد حذف الأربعين- وأتاه ملك الموت، وأراد أن يقبض روحه، فقال: {أولم يبق من عمري أربعون سنة؟!} وهنا وقعت المشادة بين آدم عليه السلام وبين ملك الموت، فقال: {أولم تعطها لابنك داود؟}.
    قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته}.
    إذاً: الجحود والنسيان والخطأ من طبيعة هذا الإنسان، ومن طبيعة هذه النفس منذ ذلك الوقت.
    وليس في هذا الحديث عهد، وإنما فيه الكتابة، وأن الله سبحانه وتعالى قدر، ومما قدر الأعمار، ومن ذلك عمر آدم وداود، فقد سأل آدم عن داود: كم عمره؟ يعني: كم كتبت له؟ وكم قدرت عليه؟ فقال: ستون سنة، وهو سبحانه وتعالى يعلم أنه سيعطيه الأربعين، ويعلم أن الأربعين لن تخصم من عمر آدم، لكنه أول الأمر أخبره بحذفها من عمره، ولن يكون إلا ما كتب الله.